فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

ولحم الخنزير هو لحم الحيوان المعروف بهذا الاسم.
وقد قال بعض المفسرين: إن العرب كانوا يأكلون الخنزير الوحشي دون الإنسي، أي لأنهم لم يعتادوا تربية الخنازير وإذا كان التحريم واردًا على الخنزير الوحشي فالخنزير الإنسي أوْلى بالتحريم أو مساوٍ للوحشي.
وذِكر اللحم هنا لأنه المقصود للأكل فلا دلالة في ذكره على إباحة شيء آخر منه ولا على عدمها، فإنه قد يعبر ببعض الجسم على جميعه كقوله تعالى عن زكرياء {رب إني وهن العظْم مني} [مريم: 4]، وأما نجاسته ونجاسة شعره أو إباحتها فذلك غرض آخر ليس هو المراد من الآية.
وقد قيل في وجه ذكر اللحم هنا وتركه في قوله: {إنما حرم عليكم الميتة} وجوه قال ابن عطية: إن المقصد الدلالة على تحريم عينه ذُكِّيَ أم لم يُذَكَّ. اهـ. ومراده بهذا ألا يتوهم متوهم أنه إنما يحرم إذا كان ميتة وفيه بعد، وقال الألوسي خصه لإظهار حرمته، لأنهم فضلوه على سائر اللحوم فربما استعظموا وقوع تحريمه. اهـ. يريد أن ذكره لزيادة التغليظ أي ذلك اللحم الذي تذكرونه بشراهة، ولا أحسب ذلك، لأن الذين استجادوا لحم الخنزير هم الروم دون العرب، وعندي أن إقحام لفظ اللحم هنا إما مجرد تفنن في الفصاحة وإما للإيماء إلى طهارة ذاته كسائر الحيوان، وإنما المحرم أكله لئلا يفضي تحريمه بالناس إلى قتله أو تعذيبه، فيكون فيه حجة لمذهب مالك بطهارة عين الخنزير كسائر الحيوان الحي، وإما للترخيص في الانتفاع بشعره لأنهم كانوا يغرزون به الجلد.
وحكمة تحريم لحم الخنزير أنه يتناول القاذورات بإفراط فتنشأ في لحمه دودة مما يقتاته لا تهضمها معدته فإذا أصيب بها آكله قتلته.
ومن عجيب ما يتعرض له المفسرون والفقهاء البحث في حرمة خنزير الماء وهي مسألة فارغة إذ أسماء أنواع الحوت روعيت فيها المشابهة كما سموا بعض الحوت فرس البحر وبعضه حمام البحر وكلب البحر، فكيف يقول أحد بتأثير الأسماء والألقاب في الأحكام الشرعية وفي المدونة توقَّف مالك أن يجيب في خنزير الماء وقال: أنتم تقولون خنزير. قال ابن شَأْس: رأى غير واحد أن توقُّف مالك حقيقة لعموم {أحل لكم صيد البحر} [المائدة: 96] وعموم قوله تعالى: {ولحم الخنزير} ورأى بعضهم أنه غير متوقِّف فيه حقيقة، وإنما امتنع من الجواب إنكارًا عليهم تسميتهم إياه خنزيرًا ولذلك قال أنتم تسمونه خنزيرًا يعني أن العرب لم يكونوا يسمونه خنزيرًا وأنه لا ينبغي تسميته خنزيرًا ثم السؤال عن أكله حتى يقول قائلون أكلوا لحم الخنزير، أي فيرجع كلام مالك إلى صون ألفاظ الشريعة ألا يُتَلاعَب بها. اهـ.
سؤال: فإن قلت: هلا قيل: إنما حرم عليكم لحم الميتة كما قال: لحم الخنزير؟
قلت: الجواب عن ذلك أن الخنزير غير مقدور عليه إلا بالاصطياد، والاصطياد فيه في غالب أمره إنما يكون للحمه، فعلق بما هو المقصود فيه غالبا بخلاف الميتة فإن النفوس تفر منها وتكره لحمها فالمحرم جميعها. اهـ.
قال ابن عاشور:
{أُهِلَّ} في الآية مبني للمجهول أي ما أهل عليه المهل غير اسم الله، وضمن {أهل} معنى تقرب فعدي لمتعلقه بالباء وباللام مثل تقرب، فالضمير المجرور بالباء عائد إلى {ما أهل}، وفائدة هذا التضمين تحريم ما تقرب به لغير الله تعالى سواء نودي عليه باسم المتقرب إليه أم لا، والمراد بغير الله الأصنام ونحوها.
وأما ما يذبحه سودان بلدنا بنية أن الجن تشرب دمه ولا يذكرون اسم الله عليه زعمًا بأن الجن تفر من نورانية اسم الله فالظاهر أنه لا يجوز أكله وإن كان الذين يفعلونه مسلمين ولا يخرجهم ذلك عن الإسلام. وقال ابن عرفة في تفسيره: الأظهر جواز أكله لأنه لم يهل به لغير الله. اهـ.
سؤال: سمي الذبح إهلالًا؟
الجواب: إنما سمي الذبح إهلالًا لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قربوه لآلهتهم ذكروا عنده اسم آلهتهم وجهروا به أصواتهم، فسمي كل ذابح جَهَر بالتسمية أو لم يجهر مُهِلًا، كما سمي الإحرام إهلالًا لرفع أصواتهم عنده بالتلبية حتى صار اسمًا له وإن لم يرفع عنده صوت. اهـ.
سؤال:
قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} الآية. هذه الآية تدل بظاهرها على جميع أنواع الدم حرام، ومثلها قوله تعالى في سورة النحل: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} الآية، وقوله في سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} الآية. وقد ذكر في آية أخرى ما يدل على أن الدم لا يحرم إلا إذا كان مسفوحا وهي قوله تعالى في سورة الأنعام: {إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} الآية.
والسبب، كما هنا وسواء عندهم تأخر المطلق عن المقيد في سورة الأنعام وهى نزلت قبل النحل مع أنهما مكيتان آيات معروفة، والدليل على أن الأنعام قبل النحل قوله تعالى في النحل: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} الآية، والمراد به ما قص عليه في الأنعام بقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية وأما كون الأنعام نزلت قبل البقرة والمائدة فواضح لأن الأنعام مكية بالإجماع والمائدة من آخر ما نزل من القرآن ولم ينسخ منها شيء لتأخرها، وعلى هذا فالدم إذا كان غير مسفوح كالحمرة التي تظهر في القدر من أثر تقطيع اللحم فهو ليس بحرام لحمل المطلق على المقيد وعلى هذا كثير من العلماء، وما ذكرنا من عدم النسخ في المائدة قال به جماعة وهو على القول بأن قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} الآية.
وقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} غير منسوخين صحيح وعلى القول بنسخهما لا يصح على الإطلاق، والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال الفخر:

إن الاضطرار ليس من أفعال المكلف، حتى يقال إنه {لا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فإذن لابد هاهنا من إضمار وهو الأكل والتقدير: فمن اضطر فأكل فلا إثم عليه والحذف هاهنا كالحذف في قوله: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أي فأفطر فحذف فأفطر وقوله: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ} [البقرة: 196] ومعناه فحلق ففدية، وإنما جاز الحذف لعلم المخاطبين بالحذف، ولدلالة الخطاب عليه. اهـ.

.قال ابن عرفة:

البغي غالب إطلاقه في اللّسان على ابن آدم والعدوان غالب إطلاقه على غير ابن آدم.
فيقال: عدا عليه السّبع ولا يقال: بغى عليه، ويقال: بغى فلان على فلان فالبغي خاص بالعاقل والتعدي مشترك، وغالب إطلاقه على غير العاقل، وفرق المنطقيون بين حرف السّلب وحرف العدول فحرف السلب لا وحرف العدول غير وجعلوا قولك: الحائط لا يبصر سلبا وزيد لاَ يبصر عدولا، فجاءت هذه الآية على هذا المنوال لاقتران غير بالبغي الخاص بالعاقل واقتران لا بالتعدي الذي كثر اطلاقه على غير العاقل حتى اشتهر به وغلب عليه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {إن الله غفور رحيم} تذييل قصد به الامتنان، أي إن الله موصوف بهذين الوصفين فلا جرم أن يغفر للمضطر أكل الميتة لأنه رحيم بالناس، فالمغفرة هنا بمعنى التجاوز عما تمكن المؤاخذة عليه لا بمعنى تجاوز الذنب، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم في رؤيا القليب «وفي نزعه ضعف والله يغفر له».
ومعنى الآية: أن رفع الإثم عن المضطر حكم يناسب من اتصف بالمغفرة والرحمة. اهـ.

.قال السعدي:

ولما كان الحل مشروطا بهذين الشرطين، وكان الإنسان في هذه الحالة، ربما لا يستقصي تمام الاستقصاء في تحقيقها- أخبر تعالى أنه غفور، فيغفر ما أخطأ فيه في هذه الحال، خصوصا وقد غلبته الضرورة، وأذهبت حواسه المشقة.
وفي هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة: الضرورات تبيح المحظورات فكل محظور، اضطر إليه الإنسان، فقد أباحه له، الملك الرحمن. فله الحمد والشكر، أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا. اهـ.

.قال ابن عرفة:

قوله تعالى: {فلا إِثْمَ عَلَيْهِ}.
لا ينفى إلاّ ما هو في مادة الثبوت ووجود الإثم هنا غير متصور لأن الأكل من الميتة في هذه الحالة واجب لإقامة الرمق قال: فأجاب بأن المراد لا عقوبة عليه أو لا ذم عليه. اهـ.
اختلفوا في حد الحرام:
قال المتقدمون: إنه ما عوقب فاعله. قال بعضهم: والصحيح أنه ما ذم فاعله لأن العقوبة قد ترفع بالتوبة، فعلى الأول معنى الآية فلا عقوبة عليه، وعلى الثاني معناها فلا ذم عليه.
قال ابن عرفة: وفي الآية دليل على أن العام في الأشخاص عام في الأزمنة والأحوال، وهو الصحيح، ولولا ذلك لما احتيج إلى استثناء المضطر منه، واختلفوا في الآية، فقيل: إنها خاصة بسفر الطاعة، وقيل عامة فيه وفي سفر المعصية لأنه لو لم يبح للعاصي أكل الميتة للزم أن يضاف إلى عصيانه بالسفر عصيان آخر بقتله نفسه؟
وأجاب بعض الناس عن ذلك، بأن عصيان السفر يرتفع بالتوبة وهي ممكنة حينئذ قال ابن عرفة: وفي الآية حجة للمشهور وهو أنّ العاصي بالسفر لا يباح له أكل الميتة. اهـ.

.قال الصابوني:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}.
[6] إباحة الطيبات وتحريم الخبائث:

.التحليل اللفظي:

{واشكروا للَّهِ}: الشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضربٍ من التعظيم ويكون على وجهين:
أحدهما: الاعتراف بالنعمة وذلك بالثناء على المنعم {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
والثاني: صرف النعمة فيما يرضي الله وذلك باستعمال السمع والبصر وسائر الحواس فيما خلقت له.
{أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله}: الإهلال رفع الصوت، يقال: أهلّ بكذا أي رفع صوته، ومنه إهلال الصبي وهو صياحه عند الولادة، وأهلّ الحاج رفع صوته بالتلبية قال الشاعر:
يُهلّ بالفرقد ركبانُها ** كما يُهلْ الراكبُ المعتمر

وأصل الإهلال: رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم استعمل في رفع الصوت مطلقًا، وكان المشركون إذا ذبحوا ذكروا اسم اللات والعزّى ورفعوا بذلك أصواتهم.
والمعنى: حرّم عليكم ما ذبح للأصنام والطواغيت، وذكر عليه اسم غير الله. قال الزمخشري: وذلك قول أهل الجاهلية: باسم اللات والعزّى.
{اضطر}: أي حلّت به الضرورة وألجأته إلى أكل ما حرّم الله.
قال القرطبي: فيه إضمار أي فمن اضطر إلى شيء من هذه المحرمات أي أحوج إليها فهو افتعل من الضرورة وأصله اضطرر.
{بَاغٍ}: الباغي في اللغة: الطالب لخير أو لشر ومنه حديث: «يا باغي الخير أقبل» وخُصّ هنا بطالب الشر.
قال الزجاج: البغي قصدُ الفساد، يقال: بغى الجرح إذا ترامى للفساد. وبغت المرأة إذا فجرت.
{عَادٍ}: اسم فاعل أصله من العدوان وهو الظلم ومجاوزة الحد.
والمراد بالباغي من يأكل فوق حاجته، والعادي من يأكل هذه المحرمات وهو يجد غيرها.
قال الطبري: وأولى هذه الأقوال قول من قال: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ} بأكله ما حرم عليه من أكله {وَلاَ عَادٍ} في أكله وله في غيره مما أحله الله له مندوحة وغنى.

.المعنى الإجمالي:

يأمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين بأن يتمتعوا في هذه الحياة بما أحله لهم من الكسب الحلال، والرزق الطيب، والمتاع النافع، وأن يأكلوا من لذائذ المآكل التي أباحها لهم، ورزقهم إيّاها بشرط أن تكون من الحلال الطيب، وأن يشكروا الله على نعمه التي أسبغها عليهم، إن كانوا حقًا صادقين في دعوى الإيمان، عابدين الله منقادين لحكمه، مطيعين لأمره، لا يعبدون الأهواء والشهوات.
ثمّ بيّن تعالى ما حرّمه عليهم من الخبائث المستكرهة، التي تنفر منها الطباع السليمة، أو ممّا فيه ضرر واضح للبدن، فذكر تعالى أنه إنما حرّم عليهم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وسائر الخبائث، كما حرّم عليهم كل ذبيحة ذبحت للأصنام أو لآلهتهم المزعومة، وكلّ ما ذُكر عليه اسم غير الله، لكنّ إذا اضطر الإنسان، وألجأته الحاجة إلى أكل شيء من هذه المحرمات، غير باعٍ بأكله ما حرم الله عليه، فليس عليه ذنب أو مخالفة ولا متجاوز قدر الضرورة، لأن الله غفور رحيم، يغفر للمضطر ما صدر عن غير إرادة، رحيم بالعباد لا يشرع لهم ما فيه الضيق والحرج.

.وجه الارتباط بالآيات السابقة:

بيّن تعالى في الآيات السابقة حال الذين يتخذون الأنداد من دون الله يحبونهم كمحبة الله، وأشار إلى أن سبب ذلك هو حب حطام الدنيا، وارتباط مصالح المرءوسين بمصالح الرؤساء في الرزق والجاه، وخاطب الناس كلهم بأن يأكلوا ممّا في الأرض، إذْ أباح لهم جميع خيراتها وبركاتها، بشرط أن تكون حلالًا طيبًا، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلاَلًا طَيِّبًا} [البقرة: 168] وبيّن سوء حال الكافرين المقلدين، الذين يقودهم الرؤساء كما يقود الراعي الغنم، لأنهم لا استقلال لهم في عقل ولا فهم، ثمّ وجه الخطاب في هذه الآيات للمؤمنين خاصة، لأنهم أحق بالفهم، وأجدر بالعلم، وأحرى بالاهتداء.